"الأقباط يحرسون مصر والإخوان يدمرونها!"
قبل الخامس والعشرين من يناير، وضمن حديث لاذع أطلق مرشد الإخوان السابق مهدى عاكف مقولته الشائنة (طظ فى مصر). بينما كان الأنبا العظيم الراحل شنودة الثالث، يقول ويكرر دائما (مصر وطن يعيش فينا قبل أن نعيش فيه).
وبعد عقود من قول البابا وسنوات من قول المرشد تتوالى الأحداث لتكشف مدى عمق المقولتين المتناقضتين، ومدى صدق ما ذهب إليه الرجلان كل من موقعه.
الأول على رأس الجماعة الإخوانية التى استمرت فى كراهيتها للدولة المصرية، وحقدها على جموع المصريين، استئثارا بالسلطة وخيانة للقوى المدنية قبل 30 يونيو، وسعيا إلى تدمير الدولة فيما بعدها. والثانى على رأس الكنيسة القبطية التى استمرت فى رعاية الوطنية المصرية والحدب عليها وصولا إلى الأنبا تواضروس الثانى الذى أعلن فى قول آخر شامخ وطنيا وإنسانيا (نصلى فى مساجدنا إذا أحرق المتطرفون كنائسنا).
فما سر هذا التباين بين هؤلاء الذين يعشقون أوطانهم، وأولئك الذين ينكرونها؟. لا سر هنا سوى مطلقية الإيمان بمركزية المكان، باعتباره خيارا نهائيا لأفق الحياة وحدود الموت، وهو إيمان ظل حاضرا دوما لدى الكنيسة القبطية العريقة، منذ نشأتها بالإسكندرية فى القرن الأول الميلادى على يدى القديس مرقص، أحد حوارى السيد المسيح، وأحد كتاب الأناجيل الثلاثة المتوافقة (متي، ومرقص، ولوقا)، بل لعله كان المحفز الرئيسى لسعيها الدائم نحو تأكيد استقلاليتها داخل العالم المسيحى، لتقف شامخة على قدم وساق مع الكنائس الكبرى فى روما والقسطنطينية وأنطاكيا، وهو ما تبدى فى اعتناق المذهب
(المونوفيزيتي)، المؤكد على الطبيعة الواحدة (الإلهية)للسيد المسيح، استنادا إلى خصوصية تاريخية قوامها الحكمة المصرية والدين المصرى القديم.
نقلا عن الاهرام
"الأقباط يحرسون مصر والإخوان يدمرونها!"
وكذلك فى ريادتها التاريخية لمسيرة الدفاع عن العقيدة المسيحية ضد الحركات التى اُعتبرت هرطوقية خلال القرون الثلاثة التالية:
خصوصا الدوناتية، واللوقيانية والأريوسية والنسطورية، حيث كان البابا إسكندر (296ـ 328)
أسقف الإسكندرية هو من تصدى لهرطقة «لوقيانوس»وكان سببا فى انفضاض الجمهور المسيحى عنها.
كما كان القديس إثناسيوس، وهو لا يزال قمصا، قبل أن يعتلى سدة الأسقفية بخمس سنوات، هو أبرز المتصدين لهرطقة «آريوس»الأكثر خطرا فى تاريخ المسيحية، لرفضها القول بألوهية المسيح، وتأكيدها على بشريته الخالصة، وتقريرها أن الآب وحده هو الإله، وأما دورها الأكثر سموا فى التاريخ، فقد تمثل فى الدفاع عن استقلال مصر الوطنى ضد جميع محتليها، من دون وقوع فى غواية هؤلاء المحتلين، الذين شاركوها فى الديانة، حيث اتخذت المقاومة الوطنية ضد الإحتلال الرومانى لمصر شكل الدفاع العقيدى عن مذهبها المونوفيزيتى ضد المذهب الأرثوذكسى للكنيسة البيزنطية.
أو شكل الدفاعى العسكرى ضد روما الغربية التى أخفت أطماعها السياسية والاقتصادية فى ثياب صليبية ومزاعم مسيحية (كاثوليكية). أو شكل المقاومة السياسية والثقافية التى حاولت تزيين الاحتلال الغربى الحديث بدعاوى نرجسية مراوغة تبرر الهيمنة.
وأخيرا شكل المقاومة الروحية والنفسية ضد مطالب بعض أبناء الكنيسة الروحية فى الحج إلى بيت المقدس، حتى لا تتمكن إسرائيل من التعمية على احتلالها الإستيطانى لفلسطين بدعاوى توراتية أثرت للأسف على الوعى البروتستانتى الغربى، وجعلت منه ركيزة للسطو والقهر باسم الله.
وفى المقابل، يختفى هذا الإيمان بمصر لدى الجماعة الإخوانية، التى طالما أعلن قادتها انتمائهم لمشروع أممى يتجاوزها، يصبح فيه المسلم ولو كان شرق أسيوى، أخا وشقيقا ومواطنا حقيقيا، أكثر من القبطى المصرى أو حتى المسلم العلمانى/الليبرالى. بل وأفصح بعضهم عن حلمهم المثير بخلافة إسلامية، عاصمتها القدس لا القاهرة، تلك المدينة التى يمكن اعتبارها عاصمة للتاريخ وليس لمصر وحدها منذ كانت منف وهليوبوليس، ثم الفسطاط والقطائع وصولا إلى القاهرة الفاطمية، فالخديوية الحديثة.
كما يتبدى واضحا غياب الإيمان بالوطنية المصرية فى ذلك التباين الحاد بين الذاكرة النفسية للجماعة، والذاكرة الوطنية للمصريين. فما يعتبره عموم المصريين، مسلمين وأقباطا، ثورات وطنية مثل 23 يوليو و30 يونيو تعتبره الجماعة محض انقلابات أفضت إلى هيمنة العسكر. وما يحفظه وعى المصريين لجيشهم من انتصارات مجيدة كحرب أكتوبر، اختلطت فيها دماء المسلمين بالأقباط فى لوحات فداء تعز الكلمات عن وصفها، والألوان عن رسمها، تتناساه الجماعة أو تطويه خلف هزيمة يونيو العسكرية السابقة على النصر، فى فهم عكسى لحركة الزمن، وإدراك غبى لروحانية الوطن.
وعندما وصلت الجماعة إلى سدة الحكم على أكتاف ثوار 25 يناير، وتصور المصريون أنها، لطول مزايدتها على حكام يوليو باسم الوطنية المصرية، سوف تسقط اتفاقية السلام مع إسرائيل، وربما تقطع العلاقة مع الولايات المتحدة، لتشن الحرب ضد الجميع، فاجأنا رئيسها المعزول بتحول أسطورى نحو صداقة (الأعداء) مخاطبا رئيس إسرائيل خطابا حميما، ومقدما لحكومتها ضمانات دأب نظام مبارك، أضعف حلقات يوليو، على رفضها.
وعندما انتفض المصريون ضد حكمها، أخذت تستعدى عليهم أمريكا التى كانت (إمبريالية) وأوروبا التى ظلت (صليبية)بكل أشكال التزييف الممكنة، بل وتدعوهم إلى التدخل ضد جيشها!.
وحتى اليوم الذى تستعد فيه مصر حكومة وشعبا للإحتفال بافتتاح فرع القناة الجديد، كحدث يجسد الإرادة المصرية، ويعلن عن مدى قدرتها على الإنجاز حتى لو اختلف البعض حول حجمه، تجد أن الجماعة تفتش عن كل ما يمكن أن يريب الحدث أو ينتقص من قيمته، بل وربما تخطط لإجهاض الاحتفال بعمل خسيس يغطى على فرحة الناس به، بعد أن صار همها الأكبر مجرد الانتقام العدمى من الدولة والتنكيد على الشعب، الذى صار واضحا مدى إنفصالها الشعورى عنه، كونها جماعة وظيفية لا تنتمى حقا للأرض التى عاشت فوقها بل لذلك المشروع الأممى الغامض الذى يتجاوزها، والتى تبدو مستعدة فى سياقه لممارسة العمالة والإرتزاق من القوى الدولية الراغبة فى تأجيرها.
وكونها كذلك تنظيما مغلقا يعكس الفهم اليهودى العنصرى للدين، والذى قام المسيح بالثورة عليه فتحا لأفاق الدين أمام بنى الإنسان، وهو نهج لا تزال تمارسه كنيستنا القبطية، عندما تبدى استعداد شعبها للصلاة فى مساجدنا، تأكيدا على وحدة الدين وأولوية الإنسان، ومركزية الوطن، الذى سيبقى، رغم أنف الجماعة الحاقدة، مسيطرا على مكانه، خالدا فى زمانه، محروسا من كل أبنائه الذين يعشقونه، أقباطهم مع مسلميهم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق