سؤال محيرني // ما هو الروح القدس واين ذكر في العهدين القديم والجديد وما عملة وما علاقتة بالمسيح وبالثالوث القدوس
سؤال محيرني // ما هو الروح القدس واين ذكر في العهدين القديم والجديد وما عملة وما علاقتة بالمسيح وبالثالوث القدوس
الروح القدس
أولا - روح الله في العهد القديم :
( أ ) عمله بصورة عامة :
يتكرر ذكر روح الله أو روح الرب كثيرا في جميع أجزاء العهد القديم ، ولكن لا يذكر العهد القديم بوضوح أن الروح القدس أقنوم متميز عن الآب والابن ، فلم يظهر هذا المفهوم بجلاء إلا على أساس أحداث التجسد ويوم الخمسين ، وفي العهد القديم ، يوصف روح الله بأنه قدوس ( انظر مز 51 : 11 ) ، لأنه روح الله القدوس ، وهو القوة الحيوية الفعالة في الخليقة وفي الانسان تاج الخليقة .
ففي عالم الطبيعة ، كان روح الله في البدء يرف - كما يرف الطائر على عشه - على وجه الغمر ، على الآرض الخربة الخالية ، ومن هذا الخراب ظهر هذا العالم المنظم ، فالروح - كمصدر للقوة والحياة - أوجد من هذا العدم ، أو هذا الخواء ، هذه الخليقة المنسقة ، وهو الذي يحفظها ويجددها ( أيوب 33 : 4 ، مز 33 : 6 ، 104 : 30 ) ، فهو الروح المحيي ( كما جاء في قانون الايمان النيقوي ) .
أما من جهة الانسان ، فالله جبله ترابا من الأرض ، و نفخ في أنفه نسمة حياة ، فصار آدم نفسا حية ( تك 2 : 7 ) ، فروح الله هو مصدر كل القوى الفريدة التي يملكها الانسان ، فروح الله أو نسمة القدير ، هو مصدر عقل الانسان ( أيوب 32 : 8 ) ، أو مصدر بصيرته ومواهبه ( تك 41 : 38 ، خر 28 : 3 ) ، ومهاراته الفنية كما في حالة بصلئيل ( خر 36 ) ، وحنكته الحربية كما في يشوع ( تث 34 : 9 ) ، والبطولة كما بدت في القضاة ( قض 13 : 5 ) ، والحكمة كما في سليمان ( 1 مل 3 : 28 ) ، وبصيرته الدينية والأدبية كما تبدو في الايحاء للشعراء والانبياء ( عد 11 : 17 و 25 و 29 ، 2 صم 23 : 2 ، 1 مل 22 : 24 ، حز 11 : 5 ، دانيال 4 : 8 و 9 ) وفي طهارته كما تبدو في قوة البار وتوبته ( نح 9 : 20 ، مز 51 : 11 ، إش 63 : 10 ، حز 36 : 26 ، زك 12 : 10 ) .
وفي ضوء هذه الأقوال ، لا يمكن اطلاقا أن نفترض أن الروح الردئ الذي أرسله الله عقاباًلبعض الإشخاص الأشرار ( قض 9 : 23 ، 1 صم 16 : 14 ، 18 : 10 ) هو الروح القدس لانجاز رسالة دينونة ، حاشاه ! ولكن حتى الروح الردئ الذي يدفع الناس للكذب أو الحسد ، هو تحت سيطرة الله لأنه خليقته ، وينفذ أغراضه ، مما يذكرنا بقول لوثر : إن الشيطان نفسه هو شيطان الله ، أي خليقة الله وتحت سلطانه .
ب - عمله في الخلاص :
نرى أنه منذ زمن مبكر ، منذ عصر القضاة ، كان روح الرب هو العامل في خلاص شعبه ، فبدون إعداد سابق ، حرك روح الرب افرادا مغمورين ، وأعانهم على القيام بأعمال رائعة من أعمال البطولة الفذة ، فخلصوا إسرائيل من أعدائهم ( قض 3 : 10 ، 11 : 29 ، 14 : 6 ، 1 صم 11 : 6 ) .
ولم يكن روح الرب يحل على القضاة والملوك لخلاص شعبه فحسب ، بل كان هو العامل في الرائين والأنبياء ، الذين كانوا ينقلون إرادة الله إلى الشعب ، وعن طريقهم وصلت لاسرائيل رسائل الله سواء للادانة أو للخلاص ( 2 صم 23 : 2 ، حز 2 : 2 ، 3 : 12 , 14 ، ميخا 3 : 8 ، مع ملاحظة تلك العبارة التي تتكرر كثيرا في نبوة إشعياء ، ونبوة إرميا : هكذا يقول الرب ) .
ولم يكن الملوك - رغم أنهم كانوا ممسوحين من الله 0 أمناء دائماًأو قادرين على حفظ السلام والعدالة في إسرائيل ، وقد وجد الأنبياء الشعب صلب الرقاب غير مستعدين للسمع ( إرميا 17 : 19 - 23 ) ، وشكوا من أنه لا أحد يؤمن برسالتهم ( إش 53 : 1 ) ، فكان لابد لاتمام قصد الله في الخلاص ، أن يوجد شخص يجمع في شخصه النبي والكاهن والملك ، وممسوح بالروح القدس بصورة فريدة ، وهو المسيا ، أو المسيح الفريد ، الغصن النابت من أصل يسى ( إش 11 : 1 ) ، الذي ستكون له كل مواهب الروح القدي في كمال ملئها ( إش 11 : 2 ، 42 : 1 ، 61 : 1 ) ، وهكذا كان المسيح النبي المثالي ، والملك المثالي ، لأنه مسح بالروح القدس بلا حدود .
ويتنبأ العهد القديم بأنه عند مجئ المسيا ، سينسكب الروح القدس على كل بشر مثل المطر الذي يحي الرض ( إش 32 : 15 ) ونسمة الحياة التي تحي العظام اليابسة ( حز 37 ) . وسيغير انسكاب الروح القدس قلوب الناس ، فيجعلهم يسمعون صوت الله ويطيعون كلمته على الفور ( إش 59 : 21 ، مز 143 : 10 ) ، وظلت هذه الرؤيا لعصر الروح القدس مجرد رجاء في تاريخ اسرائيل ، فقد تمرد الشعب وأحزنوا روح الله القدوس حتى تحول لهم عدوا ( إش 63 : 10 ) ، ولكي يتحقق هذا الرجاء ، كان يلزم أن يفعل الله المستحيل ، أن يأتي هو بذاته : ليتك تشق السموات وتنزل ، من حضرتك تتزلزل الجبال ( إش 64 : 1 ) .
ثانيا : الروح القدس في العهد الجديد :
أ - مقدمة :
الكلمة اليونانية المستخدمة للدلاله على الروح هي نيوما ( Pneuma ) المشتقة من الفعل نيو بمعنى يتنفس أو ينفخ ، فهي تطابق كلمة روح في العبرية ، ونجد في العهد الجديد عبارات : روح الله ، و روح الرب ، و روح الاب و روح يسوع و روح المسيح و الروح القدس أو الروح فقط ، وبعض هذه العبارات وردت في العهد القديم ، ولكن مع هذا الفارق الهام ، فبينما لا ترد عبارة روحك القدوس أو روح قدسه في العهد القديم إلا في المزمور الحادي والخمسين ، وفي الاصحاح الثالث والستين من نبوة إشعياء ، نجدها ترد أكثر من ثمانين مرة في العهد الجديد ، كما ترد في العهد الجديد عبارات جديدة ، مثل : روح أبيكم ( مت 10 : 20 ) ، و روح ابنه ( غل 4 : 6 ) ، و روح يسوع المسيح أو روح المسيح ( رو 8 : 9 ، في 1 : 19 ، 1 بط 1 : 11 ) ، كما أنه المعزي الآخر أو الباراقليط ( يو 14 : 16 - 26 ) .
ب - يسوع والروح :
بدأ عصر الانجيل بتحرك خاص من الروح القدس ، فنقرأ عن يوحنا المعمدان - السابق للمسيا - أنه من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس 0 لو 1 : 15 و 80 ) ، وبوحي من الروح أدرك سمعان الشيخ ظهور المسيا في شخص الطفل يسوع ( لو 2 : 52 ) ، كما أن الملاك أعلن ليوسف أن الذي حُبل به في مريم هو من الروح القدس ( مت 1 : 20 9 ، وبذلك تأيدت العبارة السابقة : وجدت حبلى من الروح القدس مت(1: 18) وهكذا قال الملاك للعذراء مريم الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك فلذلك أيضاًالقدوس المولود منك يدعى ابن الله ( لو 1 : 35 ) ، فابن الله وحده هو الذي حبل به بلا دنس .
وعندما كان يسوع في الثلاثين من عمره ، جاء ليعتمد من يوحنا المعمدان ، وكما حبل بيسوع بالروح القدس فولد قدوساً، هكذا نزل عليه - عند المعمودية - الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة إعلانا بأنه المسيا القدوس ( مت 3 : 16 ، لو 3 : 22 ) . ولعل الرسول بطرس كان يشير إلى هذه الحادثة في حديثه الأول للأمم عن يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة ( أع 10 : 38 ) ، ويشير يوحنا إلى ذلك بالقول : لأن الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله ، لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح ( يو 3 : 43 ) .
وكانت قوة الروح القدس واضحة في حياة يسوع وخدمته ، فبعد صعوده من الماء مبإشرة ، أخرجه الروح إلى البرية حيث واجه المجرب ( مت 3 : 1 - 3 ، مرقس 1 : 12 و 13 ، لو 4 : 1 - 3 ) ، وغلبه بقوة الروح القدس ، باعتباره آدم الأخير اي الانسان الكامل ، وقد نسب الرب قدرته على اخراج الأرواح النجسة ، إلى الروح القدس ( مت 12 : 28 ) ، وهكذا كان الأمر بالنسبة لتعليمه فقد مسحه الروح القدس ليبشر المساكين ولينادي للمأسورين بالاطلاق ( لو 4 : 18 ) .
وطوال خدمته هنا على الأرض ، كان الناس ينبهرون من تلك القوة العجيبة التي له ، حتى قالوا إنه مختل ( مرقس 3 : 21 ) ، كما بهتوا من تعليمه ، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان ( مرقس 1 : 21 ) ، كما كان يبدو أحياناًمتجاهلاًلحاجاته الجسدية ( يو 4 : 31 ) حتى قال البعض عنه إنه سامري وبه شيطان ( يو 8 : 48 ) ، وعندما رجع السبعون من جولة كرازية ناجحة تهلل يسوع بالروح ( لو 10 : 21 ) .
وقد يسأل البعض هذا السؤال : إذا كان يسوع هو الله الابن ، فلماذا كان في حاجة إلى قوة الروح القدس لإتمام خدمته ؟ ويرجع جانب من الجواب إلى ناسوته الكامل الذي أخذه في تجسده ، فلم يقلل من ناسوته كونه الله ، فلم تحجب قدرته الالهية ناسوته ، فهو كانسان كامل عإش معتمداًعلى روح الله ، فيسوع إذ صار انسانا ، كان يعتمد على روح الله الحال فيه ، ولهذا فهو في تدبير الخلاص ، أخذ دور المسيا ، أي الذي مسحه روح الله ، وفي نفس الوقت كان مدركاًلسلطانه الالهي المطلق ، فهو لم يكن كسائر الأنبياء ، فلم يقل : هكذا يقول الرب ، بل الحق الحق أقول لكم .
ج - حلول الروح القدس على التلاميذ :
( 1 ) مقدمة :
ربط يوحنا المعمدان بين حلول الروح القدس على يسوع بكل ملئه ، وبين أن المسيح سيعمد الآخرين بهذا الروح ، بقوله : وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ، ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاًمستقراًعليه ، فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس ( يو 1 : 33 ) ، وثمة حادثتان أعقبتا قيامة المسيح من الأموات ، تدلان على امتداد هذا المسح بالروح إلى كل التلاميذ ، حدثت أولاهما عقب القيامة مبإشرة عندما نفخ يسوع في التلاميذ وقال لهم : اقبلوا الروح القدس ( يو 20 : 22 ) . وحدثت الثانية بحلول الروح القدس عليهم في يوم الخمسين ( أع 2 ) ، وللتوفيق بين هاتين الحادثتين ، يبدو أن الحادثة الولى كانت تشير إلى الثانية ، وكأن الرب نفخ فيهم قائلاً: ستقبلون الروح القدس في المستقبل القريب ، وبذلك كان يعدهم ليوم الخمسين .
( 2 ) يوم الخمسين :
إن ماحدث في يوم الخمسين أمر بالغ الأهمية ، لا يقل في أهميته في تاريخ الفداء عما حدث في التجسد . فكما صار الكلمة ( أقنوم الابن ) جسداًوحل بيننا ( يو 1 : 14 ) ، هكذا حل الروح القدس على التلاميذ ليمكث معهم إلى الابد ويسكن فيهم ( يو 14 : 16 و 17 ) . فقد ظهرت ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم . وامتلأ الجميع من الروح القدس ( أع 2 : 3 و 4 ) ، وكان في ذلك الدليل على أنه لن يحرم مؤمن من نصيبه في هذا الامتياز ، فالروح الواحد يقسم لكل واحد بمفرده كما يشاء ( 1 كو 12 : 11 ) ، فيعطيه الروح القدس عطية جماعية وفردية في وقت واحد ، فهي لكل الكنيسة ، كما أنها لكل فرد فيها .
وإذ نال الرسل القوة من الروح القدس ، شرعوا في الكرازة بالإنجيل ، وكان هناك يهود من كل أمة تحت السماء ساكنين في أورشليم ، من الفرقتين من الشرق إلى الرومانيين من الغرب ، فبهت الجميع لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته ، بعظائم الله ( أع 2 : 6 - 12 ) . وإذ سمعوا عظة بطرس الممسوحة بقوة الروح القدس ، قبلوا كلامه بفرح واعتمدوا ، وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس ( أع 2 : 41 ) ، وهكذا وُلدت الكنيسة المسيحية ، وبدأ - ما يطلق كثيراًعليه - عصر الروح القدس ، وتحقق ما تنبأ به يوئيل النبي عن انسكاب الروح ( يؤ 2 : 28 و 29 ) ، كما تحقق قول الرب يسوع إن الروح القدس سيكون هو المتكلم فيهم ( مرقس 13 : 11 ، لو 12 : 12 ) .
ونجد أوضح الأقوال عن الروح القدس ، فيما علَّم به المسيح عن مجئ الروح في إنجيل يوحنا ( ص 14 - ص 17 ) حيث أوضح الرب أن العمل الأساسي للروح هو أن ينير أذهان التلاميذ في الحق ، ليتمجد المسيح ، وهذا هو ما حدث تماماًفي يوم الخمسين ، وفي كل سفر أعمال الرسل ، فبكرازة الرسل بقوة الروح القدس ، كانت قلوب الناس تُنخس على خطية وعلى بر وعلى دينونة ( يو 16 : 8 ، أع 2 : 37 ) .
ونعرف من سفر أعمال الرسل ، أن الحركة التاريخية التي بدأت في يوم الخمسين وأدت إلى تأسيس الكنيسة الجامعة ، بدأت بمعمودية الروح القدس ( أع 1 : 5 و 8 ) وظلت تحت قيادته وسلطانه ، وأصبح حضور الروح القدس هو العلامة المميزة للمجتمع المسيحي . وقاد الروح القدس فيلبس المبشر إلى الخصي الحبشي ، ثم خطف روح الرب فيلبس ( أع 8 : 29 و 39 ) ، وفي يافا كلَّم الروح القدس بطرس وقاده إلى كرنيليوس في قيصيرية ( 10 : 19 ، 11 : 12 ) ، كما طلب الروح القدس من الكنيسة في أنطاكية أن تفرز بولس وبرنابا للعمل الذي دعاهما إليه ( 13 : 2 ) ، وأرشد الكنيسة لحل أعوص المشاكل التي نتجت عن كرازتهما للأمم ( أع 15 : 29 ) ، ولم يدع الروح بولس الرسول يذهب إلى بيثينية ( أع 16 : 6 ) ، كما حذره على لسان أغابوس من مقاصد اليهود الشريرة في أورشليم ( أع 20 : 23 ، 21 : 11 ) . وقال بولس لشيوخ كنيسة أفسس إن الروح القدس هو الذي أقامهم فيها أساقفة ليرعوا الكنيسة ( أع 20 : 28 ) ، ولا شك في أنه قال ذلك لكل الكنائس ، لكل ذلك نستطيع أن نطلق على عصر الكلنيسة عصر الروح القدس ، أما العصر السابق ، فلم يكن الروح القدس قد أُعطى بعد . لأن يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد ( يو 7 : 39 ) ، والفارق كبير جداًبين عمل الروح القدس قبل يوم الخمسين ، وعمله بعد يوم الخمسين .
( د ) الروح القدس في رسائل بولس :
تحتوي رسائل الرسول بولس على أوضح معالجة للتعليم عن الروح القدس في العهد الجديد ، فبالتوافق مع تعليم سفر الأعمال ، الذي يعطي مكانة بارزة للروح القدس ، يجمع الرسول بولس بين موهبة الروح القدس والقوة الروحية ( 1 تس 1 : 5 ) ، والفرح العميق ( 1 تس 1 : 6 ) والقداسة ( 1 تس 4 : 4 - 8 ) ، والتكريس ( 2 تس 2 : 13 ) ، أما من جهة موهبة النبوة ، فقد أوصى المؤمنين ألا يحتقروها ، فيطفئوا الروح ( 1 تس 5 : 19 ) ، كما أوصاهم ألا يقبلوا بسذاجة كل تعليم يدَّعي أنه موحى به من الروح القدس ، بينما هو في حقيقته ليس كذلك ( 2 تس 2 : 1 و 2 ) ، ويكتب الرسول بولس بعض إشياء عن الروح ، لا تذكر بمثل هذا الوضوح في أي مكان آخر ، حتى ليمكن اعتبارها إعلانا جديداً، فيقول إن الروح القدس يشهد لأرواح المؤمنين أنهم أولاد الله ( رو 8 : 16 ) ، وإنه هو الذي به يدعون يا أبا الآب ( رو 8 : 26 ) .
ومعظم الإشارات إلى الروح القدس في رسائل الرسول بولس ، تشير إلى عمله في روح الانسان ، فيظهر في حياته ثمر المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والايمان والوداعة والتعفف ( غل 5 : 22 و 23 ) ، وكل هذه الفضائل التي تزين حياة المؤمن وتجعل منه هيكلاًللروح ( 1 كو 3 : 16 ) ، وهناك أيضاًرجاء القيامة : أن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناًفيكم ، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحي أجسادكم المائتة أيضاًبروحه الساكن فيكم ( رو 8 : 11) .
وحين يتحدث الرسول بولس عن عمل الروح القدس في روح الانسان ، ليس من السهل معرفة ماذا يقصد بكلمة الروح ، وهل هو روح الله أم روح الانسان تحت تأثير روح الله .. ويبرز هذا بصورة خاصة في المواضع التي يقابل فيها بين الجسد والروح ، مثل : لأن الجسد يشتهي ضد الروح ، والروح ضد الجسد ( غل 5 : 17 ) ، والجسد هنا هو الجانب الضعيف الخاطئ من الطبيعة البشرية ، بينما قد يُفسر الروح على أنه الروح البشرية التي يدعمها روح الله في صراعها ضد الجسد . وبعبارة أخرى : إن الذين تصارع أرواحهم ضد الجسد هم الذين يعيشون حسب الروح القدس ( رو 8 : 5 ) ، كما توجد مقابلة أخرى في رسالته الأولى إلى الكنيسة في كورونثوس ( 3 : 1 و 2 ) حيث يفرِّق الرسول بولس بين الروحيين و الجسديين ، و الجسدي هو الذي تتسلط عليه طبيعته الساقطة ، أما الروحي فهو الذي يحيا حسب الطبيعة الجديدة المنقادة بالروح القدس والخاضعة له . فالروح الانسانية وروح الله يعملان معاً، فالانسان الممتلئ بالروح هو الانسان الذي يسيطر عليه الروح القدس حتى إنه في كل جوانب حياته ينقاد للروح القدس ويعتمد عليه ، فهو مواطن في الملكوت الذي هو بر وسلام وفرح في الروح القدس ( رو 14 : 17 ) ، كما أنه انسان ممتلئ بالرجاء بقوة الروح القدس ( رو 15 : 13 ) .
ويوصي الرسول بولس المؤمنين : لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة ، بل امتلئوا بالروح ( اف 5 : 18 ) ، ومن السهل على الناس معرفة الشخص المخمور ، أفليس من السهل عليهم أيضاًان يدركوا الفرق الذي يحدثه الروح القدس في حياة المؤمن الذي تسيطر عليه ، لا قوة المسكر المدمرة ، بل قوة الروح القدس ؟ ومع أن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد اعتقني ( المؤمن ) من ناموس الخطية والموت ( رو 8 : 2 ) ، إلا أن هناك ناموساًآخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي ( رو 7 21 - 23 ) . والخلاص من قوة هذا الناموس الشرير الماكر ، ناموس الخطية ، ليس فوريا خاطفا كما يظن بعض المعلمين الذين ينادون بالكمال .
وهناك مقابلة أخرى يعقدها الرسول بولس بين الروح والحرف : أما الآن إذ متنا للناموس ( المكتوب - غل 2 : 19 ) صرنا نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف ( الناموس المكتوب - رومية 7 : 6 ) ، ويقول عن نفسه إنه خادم عهد جديد ، لا الحرف ( الناموس المكتوب ) ، بل الروح ، لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحي ( 2 كو 3 : 6 ) ، ليس لأن الناموس بلا قيمة ولكن الروح يحي ( 2 كو 3 : 6 ) ، ليس لأن الناموس بلا قيمة روحية ( لأن الناموس روحي - رو 7 : 14 ) ، ولكن باعتباره ناموسا للسلوك ، به يستطيع الإنسان أن يتبرر أمام الله . فخدمته هي خدمة الموت ، فالإنسان - لأنه خاطئ - لا يستطيع الناموس أن يعطيه إلا معرفة الخطية ، ولكنه لا يخلصه من الخطية ( رو 3 : 20 ) . وهو ما لم يدركه التهوديون ، فالناموس ضد الروح ، والروح ضد الناموس ، والذي تجدد بالروح واتحد بالمسيح بالإيمان ، قد مات عن الناموس كوسيلة للخلاص . ويقول الرسول للغلاطيين : إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس ( غل 5 : 18 ) .
وقبل ان نختم حديثنا عن تعليم الرسول بولس عن الروح القدس ، لابد أن نقول كلمة عن الروح والكنيسة ، فالروح هو رباط الوحدة الجامعة ، التي هي أحدى مميزات الكنيسة الحقيقية ( أف 4 : 3 ) . ويجدر بنا هنا أن نتأمل فكر الرسول بولس في هذا الصدد ، بتشبيه الكنيسة بالجسد ( 1 كو 12 : 12 - 27 ) . فالروح القدس هو مصدر حياة هذا الجسد : لأننا جميعنا بروح واحد أيضاًاعتمدنا إلى جسد واحد .. وجميعنا سُقينا روحاًواحداً( 1 كو 12 : 13 ) . ومواهب الروح القدس هي لأجل بنيان الكنيسة ( 1 كو 14 : 12 ) ، والمؤمنون يحب بعضهم بعضا في الروح ( كو 1 : 8 ) ، ولهم شركة في الروح ( في 2 : 1 ) ، ويعبدون الله بالروح ( في 3 : 3 ) .
وتتكون الكنيسة من مؤمنين مبنيين معاًمسكناًلله في الروح ( اف 2 : 22 ) ، وهكذا تصبح الكنيسة رسالة المسيح - مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي ( 2 كو 3 : 3 ) .
( هـ ) التعليم عن الروح القدس في رسائل العهد الجديد الأخري :
ومع أن سائر الرسائل تتكلم كثيراًعن الروح القدس ، إلا أنها لا تضيف إلا القليل إلى علم به الرسول بولس . وقد أكد بشدة كاتب الرسالة إلى العبرانييين على دور الروح القدس في الوحي بالكتاب المقدس ، فعندما كان يقتبس قولا من الكتاب المقدس ، كثيرا ما كان يشير اليه بأنه من الروح القدس مبإشرة ، فما يقوله الكتاب ، هو ما يقوله الروح القدس ( عب 3 : 7 ، 9 : 8 ، 10 : 15 ) ، وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم القول المشهور ان كلمة الله حية وفعالة .. وخارقة إلى مفرق النفس والروح .. ومميزة أفكار القلب ونياته ( عب 4 : 12 ) . والكلمة هذه القوة لأن الروح القدس هو الذي أوحى بها ، وهو لذي يستخدمها لتبكيت من يطيعونها ويجددهم ( لاحظ قول الرسول بولس عن كلمة الله بأنها سيف الروح - افسس 6 : 17 ) ، وقد ردد الرسلول بطرس نفس الفكر بقوله أن روح المسيح كان في الأنبياء شاهداًبالآلام التي للمسيح . والأمجاد التي بعدها ( 1 بط 1 : 11 ) . فبطرس - مثل كاتب الرسالة إلى العبرانيين - يعطي الأولوية في كتابة الأسفار الالهية ، لا للعامل البشري ، بل للروح القدس : فلم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان ، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس ( 2 بط 1 : 21 ) .
وتقول الرسالة إلى العبرانيين عن موت المسيح الكفاري ، إنه بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب ( عب 9 : 14 ) ، فقد قدم نفسه طوعاً- وليس كالذبائح الحيوانية - متمما قصد الاب في الفداء ( لاحظ قول الرسول بولس عن المسيح بأنه روح محيي - 1 كو 15 : 45 ) .
ويتكلم آخر أسفار العهد الجديد - وهو سفر الرؤيا 0- عن الروح من وجهة النظر إلى دور الروح في نبوات العهد القديم ، فالرائي - مثل أنبياء العهد القديم - كان في الروح في يوم الرب ( رؤ 1 : 10 ) . ورسائله التي كتبها للكنائس هي ما يقوله الروح للكنائس ( رؤ 2 : 7 و 11 و 16 و 29 ، 3 : 6 و 13 و 22 ) ، وشهادة يسوع هي روح النبوة ( رؤ 19 : 10 ) ، أي أن الروح الذي أوحي للأنبياء ، هو نفسه الروح الذي منح الملاك القدرة ليُرى يوحنا هذه الأمور ، وهو أيضاًالذي أعطى يوحنا القدرة على أن يراها ويكتبها ، ولذلك كان الملاك عبداًمع يوحنا ( رؤ 19 : 10 ) . ويشير سفر الرؤيا مراراًإلى سبعة أرواح الله ( 1 : 4 ، 3 : 1 ، 4 : 5 ، 5 : 6 ) . والعدد سبعة يرمز إلى كمال الروح في ذاته وفي كفاية عمله في الكنيسة . ولا يتكلم الروح القدس إلى الكنيسة فحسب ، بل يضم صوته إلى صوت الكنيسة في القول للمسيح : تعال ( رؤ 22 : 17 ) .
( و ) الروح القدس والثالوث :
يعلن العهد القديم أن روح الله قدوس ( مز 51 : 11 إش 63 : 10 و 11 ) ، ولكنه لا يذكر أنه أحد الأقانيم الثلاثة ، وهو تعبير له دور هام في تاريخ الكنيسة . ولا يسعنا إلا أن نتناول باختصار معنى هذه العبارة وبيان الأسس لكتابة هذا المفهوم عن الله .
وليس معنى القول إن العهد القديم ليس به ما يشير إلى الروح القدس كأقنوم متميز ، أن الروح القدس - في العهد القديم - يبدو قوة روحية غامضة ، فالروح هو روح الله ( تك 1 : 2 ) ، ولأن إله إسرائيل له كيان ذاتي ، فإن روحه يوصف بأوصاف ذاتية ، ويقوم بأعمال ذاتية ، وباعتباره واهب الحياة ، فهو يهيمن ويرشد ويحي ويحرك . ويسأل المرنم : أين أذهب من روحك ، ومن وجهك أين أهرب ؟ ( مز 139 : 7 ) ، ومعنى هذا أنه حيث يوجد روح الله فهناك يوجد الله بشخصه ، كما أن روح الله القدوس قد حزن لتمرد اسرائيل ( إش 63 : 10 ) .
وفي ضوء هذه القوال عن شخصية الروح القدس ، كان وعد الرب يسوع لتلاميذه بأنه متى انطلق عنهم ( يوحنا 16 : 7 ) فإن الآب سيرسل لهم معزّياًآخر ( الباراقليط ) الذي هو الروح القدس ( يوحنا 14 : 16 و 26 ) ، وهو وعد يتفق مع تعليم العهد القديم عن الروح القدس ، وحيث أن الرب يسوع كانت له شركة مع تلاميذه ، فمعني ذلك أن الروح القدس - الذي سيحل محله - لا بد أن يكون أقنوما مثله ـ وإلا كان الوعد الباراقليط لا يجلب لهم العزاء الكافي عندما يرحل سيدهم عنهم ، ومع ذلك لم يكونوا يفهمون هذه الأمور تماماًقبل يوم الخمسين ، ولكن لما جاء يوم الخمسين ، اختبروا عمليا وجود الروح القدس ، حتى استطاع بطرس أن يتهم حنانيا بأنه كذب على الروح القدس وأنه لم يكذب على الناس بل على الله ( أع 5 : 3 و 4 ) ، وأنه وأمرأته اتفقا على تجربة روح الرب ( أع 5 : 9 ) ، كما يتكلم بطرس عنه متميزاًعن الرب الذي صعد إلى السماء ، وعن الآب الذي أرتفع يسوع وجلس عن يمينه ، والذي أخذ منه موعد الروح القدس ( أع 2 : 33 ) ، ويظهر الله المثلث الأقانيم بوضوح في بركة الرسول بولس للكنيسة في كورونثوس : نعمة الرب يسوع المسيح ، ومحبة الله ، وشركة الروح القدس مع جميعكم ( 2 كو 13 : 14 ) .
أما أوضح عبارة عن الثالوث فنجدها في أمر الرب يسوع لتلاميذه أن يعمدوا من يؤمنون باسم الآب والابن والروح القدس ( مت 28 : 19 ) ، وليس بأسماء الاب والابن والروح القدس فهم ثلاثة أقانيم في الله الواحد .
( ز ) خاتمة :
يعلن الكتاب المقدس بكل جلاء أن الروح القدس أقنوم في اللاهوت ( وليس كائناًمخلوقاًأسمى من الملائكة ، ولكنه أقل من الابن ، كما زعم آريوس ) ، وهو واحد مع الآب ومع الأبن ، وإن كان متميزاًُ عنهما . وكان للروح القدس دوره في الخليقة ، وفي حفظها وبخاصة في الخلائق التي فيها نسمة حياة ، وله دوره في الفداء ، فهو الذي أوحى للأنبياء عن مجئ المخلص ، وهو الذي في الوقت المعين مسح المخلص ، واستقر عليه بكل ملئه ، وحل على التلاميذ في يوم الخمسين ، وجعل من المؤمنون كنيسة واحدة جامعة ، وهو الذي يمنحهما القوة لتشهد للمسيح ، وهو الذي يرشدها إلى كل الحق ، وهو الذي يجدد قلب الإنسان الذي يؤمن بالمسيح ، ويسكن فيه جاعلاًمنه هيكلا له ، ومطهراًإياه ، وهو الذي يعينه في صراعه ضد الجسد والعالم والشيطان كما يصفه في العبادة وفي الصلاة ، وبقوته التي أقام بها يسوع من الأموات سيقيم القديسين الراقدين في الوقت المعين عند مجئ المسيح ( رو 8 : 11 ) .
0 التعليقات:
إرسال تعليق